فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} {أَنْ} في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ، أي: في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ: إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهُمَا، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل {جُناح} فيكونُ مرفوعَ المحلِّ، أي: جناحٌ كائنٌ في كذا.
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عن بعضهم، أنه متعلقٌ ب {ليس}، واسْتضْغَفُه.
قال شهاب الدِّين: بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة.
قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولًا له، وأَنْ يكون صِفَةٌ ل {فضلًا}، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقًا، بمحذوفٍ.
و{منْ} في الوجهين لابْتِدَاء الغاية، لكن في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي: كَائنًا مِنْ فُضولِ ربكم.
قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} العامُل فيها جَوَابُها، وهو {فَاذْكُرُوا} قال أبُوا البقاءِ رحمه الله ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ.
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه: أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعًا عند إِنْشاء الإِفَاضَة.
قوله: {مِنْ عَرَفَاتٍ} مُتَعلِّقٌ ب {أَفَضْتُم} والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ: الصبُّ، يُقالُ، فَاضَ الإِناءُ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه.
ورجلٌ فيَّاضٌ، أي: مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ: الطويل:
وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ** عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ

وحديثٌ مستقيضٌ، أي شائِعٌ.
ويقالُ: فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازًا.
والهَمْزَةُ في {أَفَضْتُم} فيها وجهان:
أحدُهما: أنها للتعدية، فيكون مفعولُه مَحْذُوفًا، تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مَذْهب الزجاج، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ، وقَدَّره الزجاجُ فقال: معناه: دَفَعَ بعضُكم بَعْضًا والإِفَاضَةُ: الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ، ومنه يُقالُ: أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر، ومعناه: جمعها، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ، تَفَرَّق، والإِفَاضَةُ في الحديث، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، قال بعضُهم: ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي، ومنه يُقال للناس: فَوْض، ومثلهم فَوْضَى، ويُقال: أَفَاضَت العينُ دَمْعَها، فأصلُ هذه الكلمة: الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ، فقوله تعالى: {أَفَضْتُم}، أي: دَفَعْتُم بكثرة، وأصلُه: أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم: دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا، وَصَبُّوا.
والوجه الثاني: أَنّ أَفْعَل هنا، بمعنى فَعَلَ المجردِ فلا مفعول له.
قال أبو حيَّان: لأنه لا يحفّظُ: أَفَضْتُ زيدًا بهذا المعنى الذي شرحناه آنفًا وأَصلُ أَفَضْتُم: أفْيَضْتُم فأُعلَّ؛ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفًا، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض، كما تقدَّمَ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضَى الناسِ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍ.
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان:
أحدهما: أنه مرتجلٌ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ.
والثَّاني: أنه مُشتقٌّ، واختُلِف في اشتقاقه، فقيل: مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم عليه السلام لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ {عَرَفَاتٍ} قاله عليٌ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ.
قال السُّدِّيُّ: لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ، فأجابوه: بالتَّلبية، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ، ونعتها له، فخرج، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة، فَطَار، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر فطار، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ، فلمّا نظر إليه، لم يَعْرِفه، فجاز فسُمِّي ذا المجاز، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف عَرَفَة والموضعُ عَرَفَاتٍ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة.
وقال عطاء: إنّ جبريل عليه السلام علّم إبراهيم عليه السلام المَنَاسِك، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ، وقال له: أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال: نعم.
وقيل: إن إبراهيم عليه السلام وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات.
وقال الضَّحَّاكِ: إنّ آدم وحَوَّاء عليهما السلام التَقَيَا بعرَفة، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة، وقع آدم بسَرَنْدِيب، وحوّاء بجَدَّة، وإبليس ببيسان والحية بأصْفهان فلمّا أَمَر الله تعالى آدم عليه السلام بالحجِّ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا، قاله ابن عبَّاس.
وقيل: إنّ آدم عليه السلام علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له: أَعَرفتَ؟ قال: نعم، فسُمِّي عَرَفَاتٍ.
وقيل: إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا.
وقيل: إنّه تبارك وتعالى يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التَّروية في منامه، أنَّه يؤمر بذبح ولده، فلما أصبح روَّى يومه أجمع، أي: فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية.
ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيًا، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله، فسمي اليوم عرفة.
وقيل: مشتقَّة من العرف، وهو الرائحة الطيبة.
قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أي طيَّبها لهم، فيكون المعنى: أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة.
وقيل: أصله من الصَّبر: يقال: رجل عارفٌ؛ إذا كان صابرًا خاشعًا؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك: الطويل:
.......... ** عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ

أي: صبورٌ على قضاء الله تعالى فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة.
وقيل: مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة.
وقيل: إنّ آدم وحوّاء عليهما السلام لمّا وقفا بعرفاتٍ، قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] قال الله سبحانه وتعالى: الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما.
وقيل: من العرف، وهو الارتفاع، ومنه عرف الدّيك، وعرفات جمع عرفة في الأصل.
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم: ثوبٌ أخلاقٌ، وبرمةٌ أعشار، وأرضٌ سباسب، والتَّقدير، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ.
والمشهورُ: أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ، وقيل: عرفة اسم اليوم، وعرفات اسم مكان، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر: الطويل:
تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ ** لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا

والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال:
أظهرها: أنه تنوين مقابلةٍ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ طردًا للباب.
والثاني: أنه تنوين صرف، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال: فإن قلتَ: فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ، وفيها السببان: التعريف والتأنيث؛ قلت: لا يخلو التأنيث: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في سُعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في بِنْتٍ؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سببًا فيها، فصار التنوين عنده للصَّرف.
وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها: فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علمًا، ثم جعلت علمًا لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
والثالث: أنَّ جمع المؤنث، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين، فلتنوين للمقابلة، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ.
والمشهور حال التسمية به إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين: الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعًا، وفيه لغةٌ ثانيةٌ: وهو حذف التنوين تخفيفًا، وإعرابه بالكسرة نصبًا، والثالثة: أعرابه غير منصرف بالفتحة جرًّا، وحكاها الكوفيُّون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس: الطويل:
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا ** بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي

بالفتح.
قوله: {عِندَ المشعر الحرام} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق باذْكُرُوا.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل اذْكُرُوا أي: اذكروه كائنين عند المشعر.
والمشعر: المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ، وأصله قولك: شعرت بالشَّيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلانٌ، أي: ليت بلغه وأحاط به، وشعار الشَّيء علامته، واختلفوا:
فقال بعضهم: هو المزدلفة، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها، والدُّعاء عنده، قال الواحدي في البسيط.
وقال الزَّمخشري: الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة.
وقال ابن الخطيب رحمه الله تعالى: والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة.
قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن تكون الكَافُ في محلّ نصبٍ نعتًا لمصدر محذوفٍ.
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر، وهو مذهب سيبويه.
والثالث: أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل اذْكُروا تقديره: مشبهين لكم حين هداكم، قال أبو البقاء: ولابد من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث.
ومثله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} الكاف نعت لمصدر محذوف.
قال القرطبيّ: والمعنى: اذْكُرُوه ذكْرًا حسنًا كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة.
الثالث: أن يكون حالًا، تقديره: فاذكروا الله مبالغين.
والرابع: للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم، حكى سيبويه رحمه الله: كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ.
وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ.
ومَا في كَمَا يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مصدريةً، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف، أي: كهدايته.
والثاني وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب، بل إن وقع بعدها اسم، رفع على الابتداء كقول القائل: الطويل:
وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ** كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ

وقال آخر: الوافر:
لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ** كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ

أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ** وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ

وقد منع صاحب المُسْتَوْفى كون مَا كافةً للكاف، وهو محجوجٌ بما تقدّم.
والخامس: أن تكون الكاف بمعنى عَلَى؛ كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالين} إنْ هذه هي المخفَّفة من الثقيلة، واللام بعدها للفرق بينهما وبين النافية، وجاز دخول إنْ على الفعل؛ لأنه ناسخٌ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب إنَّ، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين.
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فزعم الفرّاء أنها بمعنى إنْ النافية، واللام بمعنى لا، أي: ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين، ومذهب الكسائيِّ التفصيل: بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة، فتكون إنْ بمعنى قَدْ، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186]، وبين أن تدخل على جملةٍ، كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]؛ فتكون كقول الفرَّاء.
و{مِنْ قَبْلِهِ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه {لَمِنَ الضَّالِّينَ}، تقديره: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد أَلِ الموصولةِ، لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف، والهاء في {قَبْلِهِ} عائدةٌ على {الهُدَى} المفهوم من قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ}.
وقيل: تعود إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين.
وقيل: إلى الرَّسول. اهـ. باختصار.